عن هيثم النيز الذي انتحر احتراقاً في أزقة فقر طرابلس
بشير مصطفى | 2019-12-24
عاش هيثم النيز في عائلة مؤلفة من 15 أخ وأخت، ليموت وحيدًا بعد أن سكب على جسده وقود البنزين وأضرم النار إحتجاجًا على عدم قدرته من تأمين العلاج الملائم لإبنته الوحيدة.
هيثم واحد من آلاف الفقراء الذين يعيشون في أزقة زواريب المناطق المهمشة في طرابلس، وهو نموذج لمعاناة المواطن في ظل غياب أسس دولة العدالة الاجتماعية التي تحفظ للمواطن سلة حقوقية تضمن عيشه بكرامة. تحوّلت قصته التي تتناقلها ألسنة أهل حي “التربيعة” في الأسواق الداخلية للمدينة القديمة حيث يسكن إلى ما يشبه الملحمة الأسطورية، فهو شبّ وكبُرَ في عائلة كبيرة مُعدمة، لا تملك شيئاً من متاع الحياة إلا غُرفة تضيق بساكنيها. ينامون جنبًا إلى جنب مع مآسيهم وقهرهم، وأحلامهم أيضًا. فعلى غرار فقراء المنطقة “الكرامة هي أغلى ما يملكون”. فيما تحوّل المسكن الفسيح والبيئة الصحية للسكن إلى حلم، والطبابة متطلبات صعبة المنال، ومعها فرصة العمل ضائعة في مهب ريح السياسات الاقتصادية والإجتماعية التي لا تقي العائلات الأكثر فقرًا الجوع لأن “عملهم مؤقت ومياوم وصعب المنال”.
طريق الرحيل:
طوال سنوات، إشتغل هيثم في أسواق التربيعة-طرابلس كـ حمّال للبضائع والأثدوات المنزلية، وكان طيب النفس حيث يروي عارفوه أنه كان يتقاسم الخمسة آلاف مع من يعرفهم من الحمالين والمساعدين. عايش حياة صعبة لأنه لم يمتلك المؤهلات التي تتيح له التطوّر الوظيفي، فغالباً ما يعجز أبناء العوائل الفقيرة عن تحصيل مستوى تعليمي جيد، وعليهم البحث باكرًا عن عمل يسد رمقهم. ويكشف المحيطون به أن وضع باقي أخوانه ليس بالأفضل فهم في حالة بطالة وعوز.
بعد أعوام من الزواج، إنفصل هيثم عن زوجته. لم يتمكن الوالد من تحقيق أدنى حاجيات إبنته الصغيرة، ولكن كرة اليأس التي تدحرجت وكبرت، وصلت في الفترة الأخيرة إلى حدها الأقصى.
مع حالة الإنكماش التي يعيشها البلد، تراجعت الحركة في سوق التربيعة، ولم يعد هيثم ينقل الأغراض والمفروشات، وتوقف العمل.
قرر التعبير عن رفضه للوضع القائم عن طريق إحراق نفسه عندما عجز عن توفير العلاج لإبنته التي مرضت. بعد أسبوع من تواجده في المستشفى، قضى هيثم الشاب الأربعيني نحبه، حيث لم يتمكن جسده من مقاومة الحروق الشديدة وغادر الحياة، ورافقه جيرانه والفقراء في الرحلة الأخيرة عند ظهيرة “السبت 21/ كانون الأول / 2019”.
ذكرى هيثم حاضرة:
بعد ثلاثة أيام من رحيله، تستمر العائلة والمحبين في تقبل التعازي. يستهجن هؤلاء بالتأكيد إحراق النفس كون الحياة عزيزة برغم كل شيء، إلا أنهم لا يخوضون في مسألة الإدانة لأن القدرة على التحمل تتفاوت بين الأشخاص، ولا يمكن لأي أحد أن يتوقع ردة فعل والد لا يمكنه حماية أبنائه من الفقر والجوع والبرد.
يعتبر بعض جيران هيثم أنه “لو قُدر للجدران أن تتحدث لقالت الكثير عن أوجاع البشر في التربيعة والأحياء القديمة”، لذلك يبادر بعض الشبان في المنطقة لإغاثة جيرانهم. يتحدث أبو عدي شرف الدين عن إنشاء صندوق يضع فيه أبناء الحارة ما تيسر لهم من مال، ليجولوا كل يوم في الحي، يحددون صاحب الحاجة الأعوز ويتم منحه المبلغ المجموع. يُدرك أهل الحارة أن هذه المبادرات لن تُنهي معاناة الناس، وإنما “الكحل أفضل من العمى”، وهم يُساندون بعضهم ريثما تستعيد الدولة دورها في تامين الحقوق الأساسية لأبنائها، وتقيهم شر السؤال والوقوف على باب الزعيم.