ماذا قصد بهاء الحريري بحديثه عن جبل عامل؟

بدا لافتاً أمس في منشور الشيخ بهاء الحريري خلال تهنئته بعيد الأضحى المبارك، حديثه عن متانة العلاقة التاريخية التي جمعت بين أبناء الطائفتين السنية والشيعية في لبنان، والتي شكّلت على مرّ العقود ركنًا أساسيًا في نسيج الوطن الواحد، مشيراً إلى الدور المميز لأبناء جبل عامل وعلمائه، الذين أسهموا في ترسيخ التفاهم والتلاقي بين الطائفتين، وفي حماية هذا الإرث المشترك من محاولات التفكيك والتفرقة.
ولفهم طبيعة هذه العلاقة بشكل أوضح، تشير مصادر مطلعة إلى أن الشيخ بهاء رفيق الحريري يمثل امتداداً حيوياً لإرث والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري على مدى الوطن ومكانته في الإقليم، وهو قد نشأ وترعرع في صيدا، المدينة التي كانت ولا تزال عاصمة جنوب لبنان وبوابته لبقية الوطن، وهي حاضرة كصلة وصل بين الطوائف التي تشكّل النسيج اللبناني، بالأخص بين السنة والشيعة وتداخل أشكال الحياة فيما بينهم.
علاقة بهاء الحريري بالجنوب وبجبل عامل بالأخص لا تنبع فقط من الانتماء إلى الجغرافيا أو التاريخ، بل تدلل على إمكانات أعمق تتعلّق بإحياء مشروع الاعتدال والانفتاح، في زمن اشتدّت فيه الانقسامات وانهارت فيه جسور الثقة بين المكونات اللبنانية، فهو مدرك لروحية جبل عامل ومكانته الحضارية التي شكلت مركز ثقل للفكر الشيعي منذ بدايات الإسلام في بلاد الشام، والذي كان منارة فكرية وفقهية واجتهادية للشيعة قاطبة، وله إلهامات أصيلة في تاريخ الشيعة امتدت إلى العراق، ومن النجف وكربلاء إلى باطن حوزات إيران ومجالس اليمن.
جبل عامل هو موطن العلماء والفقهاء، وفضاء للحوار والتلاقي بين الشيعة والسنة، يستلهم بهاء الحريري العبر التاريخية من فكر أعلامه، كأمثال الشيخ محمد حسن الحر العاملي (توفي عام ١١.٤ من الهجرة)، والذي كان له تأثير فقهي في الدولة الصفوية وأصبح قاضي قضاة خراسان، وهنالك سيرة الشيخ البهائي (المتوفي سنة ١٠٣٠ من الهجرة) والذي برع في العلوم الشرعية في أصفهان، أو الشيخ حسين مغنية (توفي عام ١٣٥٩ من الهجرة)، والذي ترأس جمعية العلماء العامليين، ومنهم العلامة محسن الأمين العاملي (المتوفي في ١٣٧١ من الهجرة)، وكان من رواد مجمع اللغة العربية في دمشق.
نضيف هنا الإشارة إلى الشيخ عارف أحمد الزين، صاحب مجلة “العرفان” ومن رواد أدباء المشرق، بالإضافة للعالم العبقري حسن كامل الصباح، أو الطبيب الرائد شريف عسيران، قنصل إيران أبان تأسيس دولة لبنان الكبير.
المثاقفة الفكرية الحياتية مع تراث جبل عامل تدحض كل سردية انعزالية مذهبية، في ضوء هذا الإرث العريق، لبهاء الحريري دور توفيقي قيادي للتلاقي مع أبناء جبل عامل التواقين إلى العودة إلى أصالة تراثهم الشيعي بعيدا عن أيديولوجيات التعصب المذهبي، أو دوامات العنف، أو ما هو غريب عن جوهر الرسالة العاملية الشيعية التنويرية.
الروحية العاملية التي امتدت عبر ألفية من الدهر تميّزت بالعقلانية وبالتأمل الروحي، وما انحرف عن حقيقتها في متاهات الأربعين سنة التي خلت ما هو بالنسبة لبهاء الحريري إلا نقطة في بحر ذلك الزمن.