الاعتدال… “تدوير زوايا” في “بيت بمنازل كثيرة” كتب النائب إيهاب مطر في “النهار”

في كل أزمة وطنية بلبنان، وما أكثرها، يبدأ البحث عن طرف قادر على “تدوير الزوايا” لكسر المواقف الحادة بين المتخاصمين، ما يمكّن من إيجاد تسوية تسهل تنفيس الأزمة.

 

 

“تدوير الزوايا” حرفة سياسية تتطلب مهارة وثقة عالية بالنفس لدى من يقوم بها وتسليماً له من قِبل المتأزمين، الذين هم على طرفَي نقيض وغير قادرين على الخروج من مواقفهم، المتطرفة حكماً، في مواجهة تطرف الآخرين.

 

 

قد تبدو سمعة “تدوير الزوايا” سيئة بحسب تجربة اللبنانيين، باعتبار انها توصل الى تسويات مصلحية، لا تدوم بالعادة، على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب” ضمن منطق تقاسم “جبنة البلد”.

 

لكن “تدوير الزوايا” ضمن أفق سياسي وطني سليم هو ضرورة لا غنى عنها، في بلد مثل لبنان يتميز بتنوعه الثقافي والديني، حيث تشكل التوازنات السياسية والطائفية أساساً لاستقراره، الذي اهتز مرارا خلال تاريخه القصير نسبيا جراء اختلال ميزان القوى متأثرا بتقاطعات خارجية كانت دائما مؤثرة واحيانا حاسمة في المعادلة الداخلية.

 

 

في الأفق الوطني، وفي كيان مركّب من كيانات، أي بيت بمنازل كثيرة، بحسب تشبيه المفكر كمال الصليبي، حيث لا يشكل “الدستور” حدا فاصلا قاطعا بين “المنازل” فيما الأعراف والمواثيق غير المكتوبة تفرض سطوتها وقوانينها… في هذا الأفق يمكن، بل يُفترض، استحضار التسمية الحقيقية للمصالحة أو التقريب بين متباعدين في القضايا الكبيرة: الاعتدال الوطني.

 

الاعتدال باللغة والحياة والسياسة هو الحدّ بين تطرّفين. وكلما اتسعت مساحة الاعتدال ضاق حيزا التطرف، والعكس صحيح بالضرورة.

 

 

المفارقة الوطنية أن الاعتدال كان على الدوام صفة للسنّة، إن على مستوى انتظام “المنازل الكثيرة في البيت”، أو على مستوى داخل المنزل السنّي نفسه. إذ حتى في أشد الحالات “الداعشية” التي تراكمت فوق نار الثورة السورية، بعدما انقلبت الى حرب أهلية بأبعاد مذهبية، ظلَّ الاعتدال السني قادرا على الإمساك بالتوجه العام لـ”الجماعة”.

 

 

يُرجع البعض “الاعتدال” الى “اطمئنان” السنّة لغالبيتهم في المحيط العربي، على نقيض “قلق” الأقليات العديدة الذي يتعاظم الى “تطرف” بممارسة القوة أو بالانعزال. هذا الاطمئنان السني أقلقته الولادة القيصرية لـ”لبنان الكبير”، قبل أن يسايره “الميثاق الوطني” ثم يركزه “اتفاق الطائف” ليصبح ركيزة “الاستقلال الجديد” بعد جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري التي أطلقت حركة “14 آذار”.

 

 

صار الاعتدال أكبر بكثير من “تدوير زوايا”. صار نهجاً وطنياً فرض مساحته بقوة شعبية جارفة، مصحوبة بكتلة برلمانية وازنة، ما فرض حكماً “تقييد” حيز التطرف لدى “الأقليات” ولو أن ذلك لم يتحقق من دون أثمان عالية، استنزفت “التيار السني” الذي رفع لواءه ودفعته الى اعتزال العمل السياسي.

 

والآن، بعد الأزمات المتلاحقة التي أوصلت البلد الى “خواء” حقيقي في كل مؤسساته وصولاً الى الرئاسة، ووسط الوضع المتفجر في الجنوب والمفتوح على استحقاقات إقليمية خطيرة، يتطلع اللبنانيون الى “قوة الاعتدال” التي من شأنها التخفيف من هذه الاستحقاقات باستعادة حد ما من التوافق الوطني انطلاقا من سد الشغور في بعبدا.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!