خلال مؤتمر عقد في لندن.. بهاء الحريري يطرح خريطة طريق لإنقاذ لبنان واستعادة التوازن الإقليمي

شارك الشيخ بهاء رفيق الحريري (الأربعاء 18-6-2025) كضيف شرف في طاولة نقاش خاصة نظّمتها “جمعية الشرق الأوسط” في العاصمة البريطانية لندن، تحت عنوان: “لبنان والمنطقة: الماضي والحاضر والمستقبل”، بمشاركة نخبة من الباحثين والدبلوماسيين والخبراء في شؤون الشرق الأوسط والعلاقات الدولية.
وشكّلت الجلسة مناسبة لاستعراض موقع لبنان كمركز مالي وثقافي إقليمي، إضافة إلى بحث الديناميكيات الحضارية لبلاد الشام، ومستقبل العلاقات بين المملكة المتحدة ولبنان، لا سيما في البُعد المالي والاقتصادي.
وفي كلمة لافتة له، دعا الشيخ بهاء الحريري إلى اعتماد “مبدأ السيادة الاستراتيجية المرنة” كإطار للتعامل مع التحديات الوجودية التي تواجه دول المنطقة، وعلى رأسها لبنان، مشدداً على أن هذه المقاربة تُمكّن الدول من استعادة قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة وسط بيئة إقليمية ودولية مضطربة.
وجاء في كلمة الشيخ بهاء الحريري:
“في جميع أنحاء الشرق الأوسط، يتعرض نسيج السيادة لضغوطٍ استثنائية وتغيراتٍ سريعة، ويتجلى ذلك بوضوحٍ في لبنان. من بيروت إلى دمشق وبغداد، تقف المنطقة عند مفترق طرق، حيث لم تعد مسائل الدولة والشرعية والمرونة مسائل نظرية، بل أصبحت وجودية.
في هذا المنتدى، حيث نناقش مواضيع مثل تنظيم الاستثمار، وأمن الطاقة، وبلورة التركيبة الجيوسياسية، أقترح أن نعتمد السيادة الاستراتيجية المرنة كمبدأٍ توجيهي، كطريقةٍ للتفكير والتصرف، تُعزز القدرة الوطنية على الفعل المستقل في ظل الترابط، وتستعيد النزاهة المؤسسية على الرغم من التشرذم.
يُقدم لبنان قصةً تحذيريةً ورؤيةً استراتيجيةً فريدةً يُمكن من خلالها اختبار هذا المبدأ.
اسمحوا لي أن أبدأ بالاستثمار والحوكمة الاقتصادية.
إن الانهيار المالي في لبنان – الذي يُعدّ من بين الأشدّ قسوةً على مستوى العالم منذ القرن التاسع عشر – ليس مجرد خلل اقتصادي؛ بل هو بالأحرى فشلٌ في الحوكمة، مع فسادٍ منهجيٍّ سهّل نشاطات حزب الله والجهات الفاعلة غير الحكومية المرتبطة به. سنواتٌ من تدفقات رأس المال غير المنضبطة، والجمود السياسي، والمحسوبية غير الرسمية، والفساد الحكومي، أدّت إلى نشوء هيكلٍ حلّت فيه المساعدات الخارجية والتحويلات المالية والسرية المصرفية محلّ الاستثمار الإنتاجي والتخطيط الاستراتيجي. النتيجة: دولةٌ لبنانيةٌ مُجوّفة، تعتمد على حسن النية الخارجية، وعرضةً لكلّ الرياح الجيوسياسية.
هنا، تتطلّب السيادة الاستراتيجية المرنة ما هو أكثر من الإصلاح – فهي تتطلّب إعادة تصميم إطار الاستثمار، المتجذّر في المالية العامة الشفافة، واستعادة القدرة القضائية، وأولوياتٍ خاصة بقطاعاتٍ مثل الطاقة والاتصالات والبنية التحتية الرقمية. يجب على لبنان تطوير آلياتٍ للفحص والرقابة على الاستثمارات الاستراتيجية، لا سيما في إعادة الإعمار ما بعد المرفأ، والبنية التحتية للاتصالات، واستكشاف الغاز. هذه الأمور أساسية لأمن الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك تطوير موارد الغاز في تركيا، وقبرص كعضو في الاتحاد الأوروبي والكومنولث.
وفي هذا السياق، لم يعد أمن الطاقة طموحًا مجردًا للبنان، بل هو حجر الزاوية المحتمل للتعافي. إن الاتفاق البحري الأخير الذي يحدد حدود كتل الغاز الجنوبية يفتح فرصة ليس فقط لاستخراج الموارد، ولكن أيضًا لإعادة تأكيد السيطرة السيادية على الأصول الوطنية.
ومع ذلك، يجب ألا يصبح هذا مسرحًا جديدًا للمنافسة بالوكالة. يجب حماية إدارة ثروة لبنان البحرية من خلال مؤسسات حكومية شفافة، يحكمها القانون، ويتم دمجها في إطار ثروة سيادية طويل الأجل – محميًة من الفساد الداخلي والنفوذ الخارجي.
يمكن للبنان – إذا تم توجيهه جيدًا – أن يتحول من الضعف إلى الأهمية الاستراتيجية في مشهد الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط، والأمن، والتنمية المستدامة.
بالانتقال إلى السياق الإقليمي، فإن سيادة لبنان متشابكة بعمق في تحالفات وتنافسات أوسع في الإقليم. النفوذ الإيراني متأصل من خلال الدور العسكري والسياسي لحزب الله؛ المساعدات الغربية مشروطة بالإصلاح؛ تراجع دعم دول الخليج العربي، خشيةً من خلل هيكلي؛ ولا تزال العلاقات التاريخية مع سوريا غير مستقرة. لا يمكن لأي نقاش جاد حول الاستقرار الإقليمي تجاهل هذه المحنة اللبنانية.
مع ذلك، في خضم هذه التشابكات، يبقى لبنان مجتمعًا تعدديًا يتمتع بتقاليد تاريخية في الدبلوماسية والتعليم والثقافة الرفيعة والتعايش الحيوي بين الطوائف. هذه مقومات، وليست أعباءً. لكنها تتطلب دولة فاعلة – دولة قادرة على إدارة علاقاتها الخارجية دون أن تستوعبها هذه العلاقات.
ولهذا الغرض، يجب على حكومات المنطقة أن تتعامل مع لبنان ليس كساحة فاشلة يجب إدارتها، بل كشريك في التوازن الإقليمي. كما يجب على المجتمع الدولي أن ينتقل من الإغاثة الطارئة إلى دعم بناء المؤسسات – لا سيما في مجال الإصلاح القضائي، واستقلال المصرف المركزي، وتنشيط الخدمة المدنية.
تتقاطع في لبنان، على نطاق أوسع، قضايا إقليمية مثل إعادة تشكيل سوريا، وجهود إعادة التوازن في العراق، والتحديات المصيرية التي تواجهها إيران، واستقرار تركيا، وإعادة ترتيب إسرائيل التوسعية بطرق مختلفة. إنه نموذج مصغر لسيادة شرق أوسطية تتعرض لضغوط، وموقع محتمل لإعادة تصور ما بعد سايكس بيكو! السيادة الاستراتيجية المرنة في لبنان والمنطقة تعني: الاستثمار في المؤسسات قبل الأفراد. تصميم سياسة اقتصادية لتحقيق استقلالية طويلة الأجل، لا استقرار العملة على المدى القصير. بناء شراكات في مجال الطاقة تُمكّن الدول، لا الوكلاء. صياغة دبلوماسية إقليمية لا تطلب من الدول الضعيفة اختيار أي طرف في رهانات خاسرة.
تتبلور صورة استراتيجية واسعة النطاق لدول الهلال الخصيب في الشرق الأدنى، كاتحاد بلاد الشام وبلاد الرافدين، الذي يقف استراتيجيًا كشريك إقليمي مع أوروبا، ومع تركيا وخارجها في الشرق الأوسط، بتوجيه من بريطانيا، مع لبنان كمحفز ثقافي له (سوق تجارية حرة مشتركة عبر العراق وسوريا والأردن ولبنان وحدها تكوّن مجتمعة ناتج محلي إجمالي قدره 350 مليار دولار أمريكي، ويبلغ إجمالي عدد سكانها 85 مليون نسمة، دون احتساب المغتربين).
اسمحوا لي أن أختتم بهذا: السيادة اليوم ليست كما كانت في منتصف القرن العشرين. لم يعد تعرّف بالسيطرة على الأراضي فحسب، بل بالقدرة على الحكم بكفاءة، والشراكة الانتقائية، وامتصاص الضغوط الخارجية دون انهيار داخلي.
في ضوء ما حدث منذ الأسبوع الماضي من تصاعد الصراع المسلح بين إسرائيل وإيران، يشهد الشرق الأدنى تحولات جيوسياسية متسارعة تتطلب إعادة هيكلة مناسبة للنظام السياسي في لبنان ضمن مبادئ اتفاق الطائف.
فليكن هذا المنتدى نقطة التحول المطلوبة. دعونا نعمل ليس فقط من أجل الاستقرار، بل من أجل السيادة بكرامة، والمرونة ببصيرة، والحكم الهادف”.